استهلالاً لأنشطته العلمية والفكرية لهذه السنة، نظّم مركز روافد للدراسات والأبحاث في حضارة المغرب وتراث المتوسط الورشة الدولية الأولى في الفلسفة الإسلامية على مدى خمسة أيام متواصلة (14 –18 يناير 2021) لفائدة الطلبة وعموم الباحثين، شارك فيها ثلة من العلماء والمفكرين من ذوي الاختصاص بحقول المعرفة المتصلة بالفلسفة الإسلامية وكلام وتصوف ..
ومن المحاضرات التي توّجت هذه الورشة العلمية، واعتُبرت بدون منازع واسطة عقد برنامجها العلمي، محاضرة الأستاذ الدكتور عبد المجيد الصغير، بفضل معرفته الواسعة بعلم الكلام وتاريخ الفكر الإسلامي عموماً، ورؤيته التجديدية الخاصة لهذا العلم، كما سيأتي بيان ذلك في ثنايا هذا العرض؛ وقد جاءت محاضرته بعنوان يعكس هذين البعدين بوضوح بالغ، "علم الكلام إشكالات منهجية ورؤى تقويمية"، وقد تناوله الدكتور الصغير من خلال مقدمة وثلاثة محاور فخاتمة.
مقدمة:
بعد الشكر والإشادة بمركز روافد للدراسات والأبحاث، على حسن اختيار موضوع الورشة الدولية، أكّد الدكتور الصغير على حاجة الباحثين إلى اكتساب القواعد المنهجية قبل الخوض في ثنايا العلوم بحثاً ودراسةً، وعلى حاجة العلوم الإنسانية هي الأخرى إلى قراءات تجديدية، ورؤى تقويمية تتجاوز غير العلمي من مباحثها، وتُنصف أصحابها وروادها من سيء التأويل وسوء الفهم.
ولتحقيق هذه الغاية، لا بد من استصحاب مجموعة من التنبيهات والإشكالات المنهجية التي تعْصم الباحثَ في علم الكلام والمؤرخ له من الوقوع في مجموعة من العوائق المنهجية، وبيانها كالآتي:
1. الحاجة إلى فهم العوائق المنهجية وضرورة تجاوزها
من خلال استقراء وضع علم الكلام قديماً وحديثاً، يتبين أن العوائق المنهجية المرتبطة به بعضها قديم وآخر حديث.
أ- العوائق التاريخية:
وهي مجموعة من المشكلات المنهجية المفتعلة التي ارتبطت بعلم الكلام نشأةً وتطوراً، ويتطلب المنهج النقدي نخلها وإعادة قراءتها وتجاوز الوهمي منها، وأهم هذه العوائق:
· علم الكلام؛ بما هو إنتاج فكري مرتبط بتجربة تاريخية وفكرية واجتماعية للعالم الإسلامي منذ النشأة إلى اليوم، هو من العلوم الإنسانية، مثله مثل الفلسفة واللغة، وغير ذلك من العلوم التي تفرض طبيعتُها استمرارَ النظر وتجدده في قضاياها على الدوام، دون أن تكون تلك القضايا والنقاش حولها حكراً على جيل دون آخر، أو فئة دون أخرى؛ بل إن طبيعتها تفرض استمرار مُدارستها، والانخراط بشأنها في حوار بين أجيال الباحثين قديماً وحديثاً؛ لأن قضاياها ومفاهيمها الكبرى وإشكالاتها تُلامس الوعي الإنساني ككل، ولا أدلّ على هذا التجدد النظري في تلك القضايا والإشكالات من تلكم المراجعات النقدية والرؤى الجديدة التي راكمها التأريخ لتلك العلوم؛ سواء كانت فلسفية أو كلامية أو صوفية من حيث طبيعتها، ونشأتها، وتطورها، وتحولها، وواقعها، ومآلها.
· كل تقييم موضوعي لعلم من العلوم المذكورة، وخاصة علم الكلام، قد يواجَه بمجموعة من العوائق المنهجية، عوائق يرتبط بعضها بنشأة هذا العلم؛ كالعامل السياسي مثلا، وهو عامل يكفي وحده لتعليل وجود عدد لا بأس به من القضايا والمفاهيم التي صاحبت نشأة علم الكلام؛ فالعامل السياسي، وإن ارتبط بالنشأة، فهو عامل متجدد، وجب استحضار ثقله في أي تقييم علمي رصين للمواقف الكلامية قديماً وحديثاً.
· الإسلام يجمع الناسَ وإن فرقتهم المواقفُ والآراء الكلامية، وهذه قاعدة أسّس لها أساطين علم الكلام أنفسُهم، وعلى رأسهم أبو الحسن الأشعري (ت. 324ه) رحمه الله في ( المقالات )، فليس من اللائق، وفق أبي الحسن، تضليل الناس أو البراء منهم، والوصول بالخلاف الكلامي معهم إلى حد التباين؛ وهو الرأي نفسه يؤكد عليه الشهرستاني، مع الإشارة إلى أنَّ أصل الخلاف يرجع بالأساس إلى قضية الإمامة واستحقاقها، فهو خلاف سياسي إذن، وليس عقدياً حتى يضلل الناس بعضهم بعضاً.
· وجوب تحري الباحث والمؤرخ للفكر الإسلامي عامة، والسني خاصة، الأقوالَ والمواقفَ الصحيحة، ونسبتها إلى أهلها قبل إنشاء أي حوار نقدي، وفي أي قضية كانت؛ فتاريخ الفكر السني حافلٌ بردود لأهل السنة على المعتزلة، ولكن بناء على شهادات الخصوم، والنقول المنحولة؛ وهذا عائق منهجي كبيير استمر منذ عهد المتوكل إلى اليوم.
· كل تقييم موضوعي وعلمي رصين، يقتضي من الباحث في علم الكلام والمؤرخ له، التجردَ من تبني وتكرار التهم التاريخية والأحكام المرسلة التي أكيلت إلى المتكلمين الأوائل، والتوجس منهم ومن فكرهم، بناء على تلك التهم والأحكام؛ إذ هي عند البحث والتقصي واهيةٌ؛ لأنها إنما صدرت من مواقف الخصوم، أو من نقمة الأمراء، وقد مثّل لهذا العائقَ المنهجي الشيخُ جمال الدين القاسمي (ت.1332هـ) في كتابه ( تاريخ الجهمية والمعتزلة ) بالجهم بن صفوان، حيث نبّه إلى أن المصير الذي واجهه الجهم كان باعثُه نقمة الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، بسبب موقف سلبي سابق للجهم في حكم بني أمية وسوء تدبيرهم السياسي، ولم يكن باعثاً عقدياً؛ وبناء عليه، فكثير مما ينسب إلى المعتزلة من الأقوال والمواقف على هذا الشكل، حسب الشيخ جمال الدين القاسمي.
· البحث العلمي والموضوعي في علم الكلام يقتضي تنويع المصادر التي أرّخت لهذا العلم، بل والنظر فيما احتوته نظرةً نقديةً تفيد عدم التسليم المطلق بصحته؛ ذلك أنَّ عدداً من المصادر التي يركن إليها الباحثُ في علم الكلام والمؤرِّخ له، قد تأثرت فعلاً بعواملَ نفسية وأخرى سياسية، جعلتها تنقل غير الحقيقة؛ وقد مثّل الدكتور الصغير لهذا العائق المنهجي بمصدرين أشعريين هامّين، هما: كتاب ( الملل والنحل ) للشهرستاني (ت.548ه)، وكتاب الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي (ت.429هـ)، لما لهما من حظوة عند الباحثين؛ وقد استدعى لتقييمهما شهادةَ متكلّم أشعري كبير، وهو فخر الدين الرازي (ت. 606هـ) الذي أشار في إحدى رسائله إلى أن كتاب ( الملل والنحل ) غيرُ معتمَد عليه؛ لأنه إنما نُقل عن ( الفَرق بين الفرق)، والبغدادي معروف بتعصّبه الشّديد على المخالفين، حتى لا يكاد ينقل مذهبهم على وجه حسب الرازي.
· وجوب تحري الأقوال والمواقف من كتب القوم ومصادرهم؛ لأن كثيراً مما نُقل واشتهر بين الناس، إنما هو من لوزام أقوالهم الناتجة عن المناظرات الكلامية التي يُلزم فيها متكلّمٌ آخرَ بلازم مذهبه، ويَتمُّ نقله عنه دون أن تنطق به عباراتُه وظاهرُ نصوصِه، ولازم المذهب ليس بمذهب، كما هو معلوم.
ولهذا الغرض نبَّه أبو الحسن الأشعري نفسُه إلى أحوال المؤرخين لعلم الكلام؛ فمنهم من ينقل الخبر الكاذب، متعمّداً التشنيع على المخالف، ومَن يترك التقصِّي في رواية اختلاف المختلفين، ومَن يضيف إلى رواية المخالفين ما يظنّ أنَّ الحجة تُلزمهم به..؛ ولذلك وجب إعادة قراءة التاريخ الكلامي والفكر الإسلامي عامة في ضوء تحليل البنية اللغوية للنصوص، واستحضار الظرفية التاريخية التي ظلت مغيبة في أحيان كثيرة.
· وجوب استحضار البواعث والوشائج التي رافقت نشأةَ العلم وتطورَه في البنية الاجتماعية ومقاصدَه العامة، والكفّ عن الانطلاق دائماً من حتمية افتراق الأمة واختلافها، والخوض في إحصاء الفرق والملل والنحل وتصنيفها، والمسارعة دون تفكير إلى تعيين الفرقة الناجية، انطلاقاً من توظيف وتأويل حديث افتراق الأمة، دون النظر في نقده سنداً ومتناً.
فاستحضار كل تلك البواعث المنهجية، وقراءة النصوص الكلامية على ضوئها، وإعمال ذلك مثلاً على تعريف ابن خلدون (ت.808هـ) لعلم الكلام بما هو "علم يتضمن الحجاج على العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة"، يفيد أنَّه تعريف نسبي وقاصر، بل إقصائي؛ لأنه لا يُحيل إلى طبيعة الخلاف الكلامي عند نشأته، بقدر ما يحيل إلى صورته وهو في حالة التطور الذي آل إليه علم الكلام في مراحل متأخرة؛ وهو إقصائي لأنه يعكس الرؤية الفكرية لفئة بعينها، تسعى دوماً للاستئثار بشرعية الحكم دون غيرها، مع إقصاء ذلك الغير المخالف.
ب- العوائق الحديثة والمعاصرة
بما أنَّ علم الكلام من العلوم المتجددة بتجدد القضايا والإشكالات المنهجية المرتبطة به، فإنَّ عدداً من العوائق المنهجية ظلت مصاحبةً له حتى في الزمن الحديث والمعاصر، تتطور بتطوره، وهذا يتطلب الوعي بخطورتها، وضرورة تجاوزها؛ تحقيقاً للبحث العلمي والموضوعي الرصين.
وعلى رأس هذه العوائق العائق السياسي؛ ذلك أنَّ المفاهيم الكلامية التي صاحبت نشأة علم الكلام ونمت فيه أول الأمر، من قبيل السنة والشيعة، والجماعة والأمة، والخلافة والدولة الإسلامية، والشورى والبيعة، والولاء والبراء..، وتعددت سبلُ تأويلها وتوظيفها في تلك الأزمنة هي نفسُها لازالت قيد التوظيف، ولنفس الأغراض، بل وبشكل من التسيب البعيد عن الدقة العلمية، دون أن يخمد أثرُها أبداً كما قد يعتقد البعض، فهي مفاهيمُ رحّالةٌ، تستدعي الوعي بحمولتها المعنوية، وخطورة تلقفها وتوظيفها لتحقيق مآرب شتى، وهو ما يشكل عائقاً منهجياً جديداً أمام المفكر والمؤرخ معاً لضبط مصطلحات هذا العلم، وتقييمه علمياً وبدقة، نشأةً وتطوراً، وهو أمرٌ لن يتحقق إلا باتخاذ الباحث مسافةً من تلك المذاهب المختلفة، والاكتفاء بدراستها وفق المعطيات العلمية المتوفرة، مع النأي بنفسه عن الهمّ الإيديولوجي القاضي بالاصطفاف لهذا الجانب أو ذاك، وإلا فكلّ محاولة لتجديد هذا العلم لن تقدم أيَّ جديد سوى إعادة تدويل تلك الصراعات القديمة، وإذكائها مرةً بعد أخرى، وربما بنفَس أشدّ، بل وقد حدث ذلك بالفعل، حتى صارت هناك أحلافٌ وتكتلات فكريةٌ مختلفة ومتباعدة أحياناً، كالرشدية والغزالية، وغيرها من التكتلات التي صار كلُّ همّها تعيين الفرقة الناجية المندرجة وحدها ضمن دائرة البرهان والمعقول.
ولا مخرج، حسب الدكتور الصغير، من هذه الإشكالات الناتجة عن العوائق المذكورة إلا بإعادة قراءة تاريخ الفكر الإسلامي عامةً والكلامي خاصةً، وتحريره من الضغوط الإيديولوجية التي توجّهه، وجعل الهمّ المعرفي الهمّ الوحيد القاضي بتفسير المادة المدروسة في شبكة من العلاقات المتداخلة؛ بين ما هو تاريخي ولغوي واجتماعي، مع الاستعانة بكل المناهج والرؤى الحديثة قبل تنزيلها على إشكالات وقضايا المادة الكلامية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أنَّ المنهج النقدي كما أسس له الأولون يشيد بالحق في الاختلاف، بل وقد أُسّست له مجموعةٌ من الضوابط الأخلاقية، والقواعد المنهجية التي أسهمت في ترسيخ أدب المناظرة والحوار بين المختلفين، وهي قواعد وضوابط من شأن التمسك بها أنْ يحقق المراجعة العلمية لأحكام هذا العلم، وتبيُّن حقيقتها، وتقييم طبيعة الاختلاف بشأنها.
وجدير بالذكر أنه يجب ألا ينصبّ اهتمامُ الباحثين فقط على العامل العقدي في تلك الاختلافات، وإنما وجب مراعاة العوامل الأخرى، وعلى رأسها العامل اللغوي، لما له من أهمية بالغة، وحضور قوي وحاسم في العديد من الاختيارات الكلامية، سواءٌ تعلق الأمر بالاختلاف اللفظي للمفاهيم، أو لعدم الاتفاق على أرضية لغوية موحدة سلفاً حيال المفاهيم المستعملة، وخاصة في المناظرة؛ فالعديد من لوازم القول الكلامي التي بُنيت عليها أحكام ورؤى، إنما انبثقت من هذا العائق اللغوي، ومن شأن استحضاره لدى الباحثين الإسهام في تقليل الاختلاف، والأهمّ من ذلك تحقيق الإنصاف التاريخي لمن ظلمتهم تلك اللوازم.
2. مآلات علم الكلام داخل التراث الإسلامي في العصر الحاضر:
كغيره من أنواع الفكر الإنساني، تعرَّض الفكر الكلامي لمراجعات نقدية كثيرة، وواجه قديماً وحديثاً محاولاتٍ كثيرةً لنزع الشرعية عنه، أو لتبخيس قيمته المعرفية والبرهانية المتوخاة من مباحثه؛ وإن تلك المواقف السلبية نفسَها يجب النظر إليها باعتبار الظروف الخاصة التي أنتجتها بنفس الأدوات المنهجية والقواعد العلمية المؤكد عليها سلفاً.
وعند التحقيق، فهي كلها موجهةٌ برؤى إيديولوجية محددة، تبتغي تحقيق مآربها ولو على حساب الحقيقة العلمية، وفي أحسن الأحوال فإن تلك المواقف السلبية قد تعترف لعلم الكلام بفضيلة البرهان وقوة الحجاج في الدفاع عن العقيدة الإسلامية في وجه المخالفين من أهل الملل والنحل، ولكن مع الإقرار يقيناً بأنه قد استنفذ أغراضَه، وانقطعت الحاجةُ إليه بانقطاع أهل البدع والزيغ من المخالفين، وانتفت الحاجة إليه، كانتفاء الحاجة إلى المنطق بالنسبة للفلسفة، كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون وقبله أبو حيان التوحيدي (ت.414هـ) في ( الإمتاع والمؤانسة )؛ والحق أن هذا الموقف الخلدوني إنما يعكس زمنَه الذي عرف تأزّماً سياسياً، وانحساراً معرفياً، وانكفاءً على الذات، وتوجساً من التواصل مع المخالف الديني أو المذهبي.
3. محاولات تقييم علم الكلام في عصرنا الحاضر:
من جملة المحاولات التي تستدعي الانتباه في تقييم علم الكلام في عصرنا الحاضر، محاولة المفكر التاريخاني عبد الله العروي، فهو لا يترك فرصةً إلا ويقيّم فيها الفلسفة وعلم الكلام معاً تقييماً سلبياً؛ كما هو واضح في كتابه ( السنة والإصلاح ) مثلا.
فتقييمه السلبي هذا، لا يعدو أن يكون نسخةً من الموقف الفقهي والسلفي المتشدد المعروف في تاريخ الإسلام، كما عند ابن تيمية وغيره، فالفكر الفلسفي والكلامي حسب العروي ما هو إلا مساجلة مع الأشباح، وهو فكر لم يبق منه غيرُ القصص والخيالات العقيمة وغير الواقعية؛ وقد بلغت سلبية هذا الموقف حدّ اعتبار علم الكلام لاهوتاً لا سند له من الواقع، ولا يعكس البتّةَ هموم الإنسان، مُستنداً في ذلك إلى بعض دعاوى ابن رشد المعروفة ضد علم الكلام.
فهذا الموقف التاريخاني من العروي ليس إلا موقفاً خطابياً أو وضعياً على الأقل؛ لأنه إقصاءٌ وتبخيسٌ لتاريخ طويل من الفكر الإنساني، في الوقت الذي لا يحتاج فيه هذا الفكرُ إلا لمجرد قراءة نقدية تتيح المراجعة والتصحيح، خاصة وأن ابن خلدون نفسَه قد سبق واعترف بدور علم الكلام في تطوير أصول الفقه، كما هو واضح في ( البرهان ) للجويني (ت.478هـ)، و ( المستصفى ) للغزالي (ت.505هـ) مثلا.
والحق أنَّ العروي، كما سبق التنبيه على ذلك، قد أغفل الأبعادَ التاريخية والسياسية والاجتماعية التي رافقت نشأة علم الكلام، وهي أبعاد لا يخفى أثرُها في إنتاج المواقف الكلامية على أحد.
وبالنظر لموقف ابن خلدون السابق، والعاكس لحالة الانحسار والانغلاق على الذات، كما اتّسم بذلك عصره، فعصرنا هذا، بما أصبح عليه قرية واحدة، أضحى من المستحيل الانكفاء على الذّات، وعدم التواصل مع الآخر المخالف؛ وهذا بدوره يُحتّم إعادة النظر في الموقف الخلدوني، لتغير الظروف والأحوال، إذ الحاجة ماسّةٌ اليوم إلى استدعاء الفلسفة وعلم الكلام من جديد - طبعا بعد تجديدهما وتطويرهما - واستثمارهما في محاورة الآخر، وتدبير الاختلاف معه تدبيراً عقلانياً بما يتيحه هذان العِلْمان من قواعد منهجية، وضوابط أخلاقية، تعبيراً عن الرغبة في الانخراط بالعالم الجديد.
وما دام الحديث عن مآلات علم الكلام، فإن الانخراط بالعالم الجديد بظروفه وأحواله المستجدة يقتضي الاستعانة بعلم آخر، وهو علم مقارنة الأديان، خاصة وأنه ليس بغريب عن الفكر الإسلامي، فهو إنما خرج من رَحم علم الكلام، ونشأ في حضنه قبل أن ينتقل إلى الغرب ويتطور؛ مكتسباً الفعالية اللازمة في الحوار مع المخالف الملّي، وهو اليوم من العلوم ذات المكانة الرفيعة أكاديمياً، وخصوصاً في العالم الجرماني.
إنَّ الاستعانة بعلم الأديان تقتضي أولاً عدم الالتفات إلى تلك الدعاوى التي تبخسه وتصرف النَّظر عنه، وتمنع الاشتغال به، بداعي خدش التسامح الديني، وتهديد وزعزعة السلم الاجتماعي..، وهذا ليس إلا شكلاً جديداً من أشكال العراقيل الوهمية، إذ كيف لم تهدّد تلك المباحث العلمية مَن اعتنوا بها في أماكن أخرى من هذا العالم.
أما ما يطلق عليه اليوم بعلم الكلام الجديد، فلن يحقق أهدافَه العلمية ما لم يتحرّر من العراقيل والعوائق المذكورة سلفاً، وخاصةً السياسية والمذهبية منها، ولا عجب إذا علمنا أن بعض المذاهب المعاصرة لا زالت حبيسة المفاهيم القديمة، تُرددها وتحكم على الأشياء قبولاً أو ردّاً بناء عليها، كمفهوم الولاء والبراء مثلاً، أو تحتكم إلى صراعات سياسية عفا عليها الزمن، وما لم يستعن بالأدوات والقواعد المنهجية التي تتيحها العلوم القديمة والحديثة.
وبالنظر لتوسع وتعدّد وسائل التواصل الحديثة وسرعتها، إضافة إلى تدخل قوى سياسية عديدة، فإن تحقيق تلك الأهداف العلمية المرجوّة، يُحتم أيضاً استصحاب القيم الكبرى في الخطاب الكلامي، وعلى رأسها قبولُ الاختلاف والاعتراف به حتماً كطبيعة إنسانية كونية سليمة؛ ووجوب النظر العقلي بما يستتبعُه من نقد للتَّقليد الأعمى، وخاصة في العقائد، ونهج الحوار الإيجابي كسبيل للتواصل مع الآخر باعتباره نظيراً أو أخاً في الإنسانية؛ مع ضرورة رفع أي غموض أو غنوص أو تلفيق في المفاهيم والمصطلحات والآراء بداعي التسامح الديني، دون إغفال ما يُستجدّ من القضايا والمشاكل الإنسانية التي أضحت تفرض نفسَها على الفكر الإنساني، خاصة وأنَّ أسباب وجودها قد ترجع لإيديولوجيات معينة، أو يتم تأويلها وفقاً لمفاهيم محددة، أو يتم توظيفها لأغراض غير بريئة؛ كقضية الهُوية والخصوصية والاختلاف والتسامح والتعايش والمواطنة والاندماج والعلمانية واللائكية والدين والأخلاق والنسبية والتطرف والوسطية وغير ذلك من الإشكالات المعاصرة، دون أن ننسى ضرورة الإبقاء على مسافة من الاستقلالية تتيح للمفكر حق المراجعة والالتزام بضوابط البحث العلمي.
وختاماً، فإنَّه لا بد من التأكيد على أن أهمَّ الأحداث التي صاحبت القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، قد أظهرت للجميع أن القيم الدينية والإنسانية عامة، صارت من جديد حاضرةً في أحداث حياتنا اليومية، ومؤثرةً مع عوامل أخرى في رسم معالم مستقبل الإنسانية عامة؛ وهذا سبب وجيه يدفع بإلحاح إلى تجديد النظر في علم الكلام، تجديداً نميز فيه بين الثابت والمتغير، وبين المجمع عليه والشاذ، ونعلي فيه من شأن الرّؤى الفلسفية، ومناهج البحث العلمي، وأخلاقيات الحوار والمناظرة، ومنظومات القيم الجامعة بما يساعد على تدبير الاختلاف وترشيده وتوجيهه؛ تحقيقاً لمقاصد شرعية كبرى، وطلباً لمصالح إنسانية مشروعة، وسبيلاً لجعل الاختلاف سبباً في التواصل مع الآخر.
وتلك غايات كبرى وجليلة أسهم مركزُ أبي الحسن الأشعري في تنفيذ جزء هام منها، بفضل جهوده المحترمة في تحقيق التراث الكلامي بالغرب الإسلامي عامة، وبالمغرب الأقصى خاصة، واكتشاف العديد من النصوص الكلامية التي تؤرخ للفكر الكلامي بهذا القطر من العالم الإسلامي، وتتيح الفرصة لقراءة إشكالاته وفق القواعد المنهجية، والرؤى التقويمية، والضوابط الأخلاقية المعلن عنها في هذه الورقة.