في إطار سعي علمي حثيث لخدمة التراث وإبرازه على الوجه الذي يليق به، نظم مركز روافد للدراسات والأبحاث محاضرة علمية ترأسها الدكتور أحمد شوقي بنبين موضوعها من الكتاب المخطوط إلى الكتاب المطبوع في التراث العربي.
استهل المحاضر كلامه بالقول إن الحديث عن الكتاب المطبوع حديث ذو شجون تطبعه إشكالات عديدة، ومعظم ما ألف في هذا المضمار يتقصَّد ابتحاث الجانب التاريخي وهو على أهميته، إلا أن هذه الكتب أغفلت جوانب أخرى لا تقل أهمية من قبيل البحث في الجانب التقني وتدقيق المصطلحات وغير ذلك، فتطور تقنيات الطباعة أحدث تغيرا جذريا في الكلمة المكتوبة وأسهم بقسط وافر في تشكيل تغيرات اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية مست الحضارة الإنسانية، فاستتبع ذلك تلاقح ثقافي كان للعالم العربي له منه نصيب وإن تأخر دخول الطباعة إلى حضارتنا زهاء القرنين من الزمان؛ أي في مطلع القرن 18 الميلادي.
بعد هذه الوطاءة، انتظمت كلمةُ المحاضر في عناوين مركَّزة كالآتي:
الكتاب المطبوع العربي.
بنفَس العالم المدقق الذي خبَر صنعته ومهر فيها، انطلق المحاضر في حديثه عن الكتاب العربي المطبوع إلى سرد جملة من الاستشكالات التي لا تخلو المجاوبة عنها من احتمالات وافتراضات منطبعة بطبيعة البحث في هذا الموضوع، وهو لا يزال بكراً يحتاج إلى مزيد تعمق وتفتيش حتى تجلى عنه كثير من جوانب الغموض التي يرصدها كلُّ باحث ثاقب النظر، ولذلك يرى الدكتور بنبين أن المشتغل بالكتاب المطبوع وبالطباعة العربية عامة لا انفكاك له من الاتصاف بشرطين علميين رئيسين وهما:
1) المعرفة الكافية بالكتاب المخطوط، فالمطبوع امتداد للمخطوط واستمرار له في الزمن، بل إن الحديث عن المخطوط ما كان ليتأتى لولا وجود المطبوع، فحتى على مستوى التسمية (المخطوط ) لم تبرز إلا عندما ظهرت الطباعةُ، ما يجعل الأول بتعبير الدكتور " مديناً بحياته للثاني". فشدَّة الوشاجة بين الكتاب المخطوط والكتاب المطبوع يحيل بالضرورة إلى ما أطلق عليه الدكتور بنبين المآسي التي تعرَّض لها الكتابان على حدٍّ سواء، ومنها:
· هفوات النُّساخ بالنسبة للمخطوط،
· أغاليط الطباعين وهنَّات الطباعة، وقصور المراجعين والمصححين، بالنسبة للكتاب المطبوع.
وحاصل القول إن ظاهرة التصحيف والتحريف ممتدةٌ في الكتب المطبوعة والمخطوطة، وحتى تلك التي تولى أصحابُها نسخها، يقول الدكتور محي الدين عبد الحميد في مقدمه تحقيقه لعمدة ابن رشيق القيرواني (ت ق 5 هـ) ." إن التصحيف والتحريف ليفشوان فيها، وهذه العيوب فاشية في مطبوعاتنا العربية، وقلما يخلو منها كتابٌ واحد، وهذا التشويه ما جعل الناشئة تنصرف عن التراث " .
2) الإلمام بعلوم المكتبات التي لها صلةٌ مباشرة بالكتاب المطبوع؛ كتاريخ الكتاب، والطباعة البيبليوغرافيا وذلك بالاطلاع على أمهات الكتب في هذا الباب، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر كتاب ( الأدلة البيليوغرافية )؛ وهو من وضع ثلة من المستشرقين الفرنسيين، وكتاب (البيبليوغرافيا العربية) (Bibliotheca Arabica) وهو للمستشرق الألماني (Shnrrer1821), ولم يفوت المحاضر هذه الفرصة لتنبيه الباحثين إلى خطأ شائع متعلق بترجمة كلمة ( Bibliotheca)والتي تترجم بـ "مكتبة"، في حين أن معناها هو البيبليوغرافيا وليس المكتبة. من الأمهات كذلك في هذا الباب كتاب المستشرق الألماني (Zenker) بعنوان (Bibliotheca Orientalis)؛ لقد حاول صاحبُه جمع أسماء الكتب المطبوعة بالعربية والفارسية منذ بداية الطباعة إلى عام 1860م، وكتاب البلجيكي (Chauvin) بعنوان ( بيبليوغرافيا الكتب العربية أو التي لها صلة بالعربية المنشورة في أوروبا المسيحية من سنه 1810 الى 1885 ميلادية)؛ وهو ذيل على كتاب (Shnurrer). ثم كتاب الهولندي الأصل الأمريكي الجنسية (Van deyk) بعنوان ( اكتفاء القنوع بما هو مطبوع) وقد وضعه بالعربية وجمع فيه أسماءَ الكتب العربية المطبوعة من أقدم عهدها إلى نهاية القرن 19 الميلادي.
تقنيات الطباعة
الكتاب المطبوع يمثل الطور الثالث من أطوار الحضارة الإنسانية التي أعقبت طور الكتاب المخطوط، هذا ما استهل به الدكتور بنبين حديثَه حول تقنيات الطباعة؛ والتي يرى أنها تندرج في ثلاثة أنواع رئيسة وهي:
الطباعة اللوحية أو الخشبية؛ وهذه التقنية بدأت في الصين منذ العصور المسيحية الأولى إلى القرن الثامن والتاسع الميلاديين، فقد عثر على مؤلفات المفكر الصيني كونفوشيوس الذي عاش ما بين (6 ق م و 5 ق م) ، مطبوعة على الخشب ومحفوظة الآن في الخزانة الوطنية البريطانية، كما عثر على ألواح أخرى في مصر وغيرها.
الطباعة المتحركة (Typographie)؛ ويرجع ابتكارها للألماني (Gutenberg 1468) وبنظر النقدي يرجع الدكتور بنبين ابتكار هذه التقنية إلى زمن أبعد يقدر ب 78 سنة قبل اكتشاف (Gutenberg) وهذا ما تمَّ التدليل عليه علميّاً سنه 1985 م بفرنسا لما اكتشف كتاب مطبوع يرجع إلى سنه 1377م.
الطباعة الحجرية؛ تم اكتشافها سنه 1794م. من طرف ألماني آخر يدعى (Aloys Senefelder)، ولم تنتشر إلَّا في القرن 19، وقد عملت بها معظم الدول العربية لمشابهتها للكتاب المخطوط، وذلك راجع لأسباب:
* تقنيَّة؛ حيث إنَّ الطباعة الحجريَّة تنقل الطرر والحواشي داخل المطبوع.
* واجتماعية؛ فهي أسهمت في الإبقاء على مهنة النِّساخة.
* واقتصادية؛ إذ المطبوع الحجريُّ أرخص من المخطوط.
* ثم ثقافية؛ لأنَّ المطبوع الحجري يشبه كثيراً الكتاب المخطوط.
الطباعة العربية
مرَّ الكتاب العربيُّ بمراحل؛ أوَّلها مرحلة الجمع ثم النساخة ثم الطباعة التي تأخر ظهورُها في الشرق زهاء القرنين من الزمن؛ أي إلى حدود القرن الثامن عشر الميلادي، هذا التأخر يدفع الباحثَ إلى طرح استشكالات من شأنها إماطة اللثام عن جوانب خفيَّة متعلقة بالكتاب العربي المطبوع، فهل هذا التأخُّر راجع إلى إغفال مقصود؟ هل كان الغرض من طباعة الكتاب العربي في الغرب بداية من القرن السادس عشر علميّاً بحثاً؟ أم كانت له أسبابٌ أخرى دينية مثلا؟ ثم لماذا كان أوائل المهتمين بالطباعة العربية من غير المسلمين كالنصارى؟
كل هذا قد ينهض للقول بأن الطباعة كانت لاهوتية تنصيرية في أساسها، وأوائل الكتب في هذا المضمار كتُب المذهب الملكاني المسيحي القائل بطبيعتي المسيح اللاهوتية والناسوتية. فقد طبع سنة 1514 ميلادية " صلاة السَّواعي "؛ وهو كتاب في الديانة المسيحية على المذهب الملكاني.
كان للبندقية الإيطالية إشعاعٌ كبير في مجال الطباعة، فقد طبع بها أول مصحف؛ والسبب في ذلك يرجع إلى كونها كانت قبلةً لعديد من النازحين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. وكانت تضم أزيد من 150 مطبعة، فكانت بذلك عاصمةَ الطباعة في العالم، وقد ألفت رسالة في جامعة السوربون بفرنسا بعنوان: " الطباعة العربية في البندقية في نهاية القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين" كما تزخر البندقيَّة بأكبر عدد من الطبعات المهدية (les incunables) وهي الكتب التي طبعت ما بين 1453 و 1500م ، كما تضم البندقية عدداً كبيراً من المكتبات التي تحوي نفائس المخطوطات، ما جعلها قبلةً للمهتمين بالبيبليوغرافيا، وعلى رأسهم الطبيب السويسري ( Conrad Gussner) والذي يعد أب البيبليوغرافيا الحديثة، وقد ألف كتاباً ضخما بعنوان: البيبليوغرافيا الكونية (Bibliotheca Universalis).
ذكر المحاضر أنَّ طباعة القرآن الكريم السالف الذّكر في مدينة البندقية فشلت، مما يفتح البابَ على مصراعيه لطرح عديد من الفرضيات حول هذا اللُّغز والذي استمر لأربعة قرون، وهو ما أكَّدته إحدى الباحثات الفرنسيات سنة 1884م في كتاب بعنوان ( الطباعة العربية في الغرب من القرن 16م إلى 18م ) .
لماذا اهتم الغرب بطبع كتب النحو العربي؟
كان لمطبعة (Medici) دورٌ في ترجمة الكتب العربية، ومنها كتاب " الآجرومية "، وكتاب "كافية ابن الحاجب" وكتاب "التصريف" لعز الدين الزنجاني، وقد كان الغرض من ذلك تعليم المبشرين العربية لمجابهة المسلمين ومقارعتهم ما يثبت الدعوى السالفة؛ وهي أن الطباعة في بدايتها كانت لاهوتية تنصيرية في أوروبا.
مما أثاره المحاضرُ أثناء استطراده في هذه النقطة مصطلح " الطبعات الأصلية " فقد توقف الدكتور أحمد شوقي بنبين عند دلالة هذا المصطلح، مؤكداً على ضرورة تمييزه وتدقيق استعماله، فالطبعة الأصلية تشمل أول طبعة للكتاب، وهناك فرق بين أول طبعة، والطبعة الأولى؛ فمثلا الآجرومية أول طبعة لها نشرت في روما سنه 1592م، ونقلت إلى اللاتينية عن طريق المستشرق الإيطالي" ريمون دي"، وما تم طباعته بعد ذلك في المشرق ليس بطبعات أصلية (Édition princeps).
الطباعة في المشرق.
الناظر في تأخر دخول الطباعة إلى المشرق العربي زهاء القرنين من الزمن، لابد أن يستشكل هذا الأمر، وأن يسعى إلى البحث في أسباب ذلك، فالطباعة دخلت المشرق إبَّان القرن الثامن عشر، وقد كانت الإمبراطورية العثمانية قبل ذلك قد سمحت للنازحين من اليهود وغيرهم في القرن الخامس عشر والسادس عشر بتأسيس مطابع، فتم طباعة كتب عربية بحروف غير عربية،أما الطباعة العامة فقد تأخرت بعد ذلك بزمن، ما يفتح الباب مشرعاً لطرح تساؤلات تحاول تبرير هذا التأخير من قبيل: هل كان الخوف من تشويه النص القرآني أو تحريفه سبباً لذلك؟ هل كان للنُّخبة العالمة دورٌ في المنع احتكاراً للمعرفة؟ هل كان للعامل السياسي دورٌ في المنع؟ ثم لماذا كان السَّبق في الطباعة في المشرق منصبّاً حول الكتب المسيحية؟ فأول ما طبع كما ذكرنا كتاب صلاة السواعي؛ وهو كتاب مسيحي خاص بالطائفة الملكانية سنة 1706 ميلادية، ومن المطابع التي برزت في المشرق العربي مطبعة " قوز حيا" في لبنان وتعني "كنز الحياة"؛ وهي مطبعة مارونية طبعت فيها كتب دينية مسيحية بالخط السرياني.
خاتمة
هل انتقلنا من طور النساخة إلى طور الطباعة؟ أم أننا في أحسن أحوالنا لازلنا نتخبَّط في مشاكل البدايات؟
تلكم هي الإشكالات الصادمة التي ختم بها الدكتور محاضرتَه، ومردُّه في ذلك أنَّ الناظر في تراثنا المطبوع يسجّل بأسف شديد أنَّ كثيراً مما طبع من تراثنا يفتقر إلى الدقَّة والتدقيق، ويتجاهل جهودَ القدماء في الضبط والتحقيق، ويتغافل عن أساليب المنهج الحديث، رافعاً ملتمساً لصنَّاع القرار بضرورة تشديد المراقبة على الطبَّاعين ودُورِ الطباعة خدمةً للعلم، حتى لا تختزل الطباعة في البعد التجاري فقط.