نظم مركز رافد للدراسات والأبحاث في حضارة المغرب وتراث المتوسط، الورشة الدولية الأولى في الفلسفة الإسلامية، على امتداد أربعة أيام، من 14 إلى 18 يناير 2021، حيث استدعى لها ثلة من أعلام الفكر الفلسفي العربي المعاصر. تمثَّل هدفُ الورشة في توجيه اهتمام الباحثين الشّباب لأهمية البحث في الفلسفة الإسلامية، وتعميق وعيهم بقيمتها وجدوى البحث الأكاديمي فيها، حيث ألقيت محاضرات تعرض لتجارب باحثين كبار في الفلسفة الإسلامية من أمثال: ميثم الجنابي، محمد المصباحي وعبد المجيد الصّغير.
ميثم محمد طه الجنابي؛ أستاذ العلوم الفلسفية في الجامعة الروسية وجامعة موسكو الحكومية، وله اهتمامات متعددة تتراوح بين تاريخ الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية (الكلام، الفلسفة، التّصوف)، تاريخ الفلسفة العالمية، تاريخ الفكر العربي المعاصر، فلسفة التاريخ، تاريخ الأديان المقارن، وتاريخ الفكر السّياسي. وكان ثمرة هذه الاهتمامات المتعددة العديد من الكتب والدراسات الأكاديمية.
خلال اليوم الأول من الورشة، قدم الباحث العراقي الكبير ميثم الجنابي محاضرة بعنوان "نحو فهم تاريخي وثقافي للفلسفة السينية (ابن سينا)"،كما أطر ورشة موجهة للطلبة الباحثين الشباب وسمها بـ " البحث المتخصص والتّعميم الفلسفي لإبداع ابن سينا ". وقد ركز الأستاذ ميثم الجنابي في مقاربته على حقيقة الفلسفة السينوية وفق مقتضيات العقل الثقافي التاريخي ومنظومة المرجعية الإنسانية المتسامية.
في اليوم الثاني، من أيام الورشة، أتحفنا الأستاذُ ميثم الجنابي؛ وهو المتخصص في الغزالي، بمحاضرة عنوانها " نحو فهم فلسفي لإبداع الغزالي، منطق الرؤية العلمية ومرجعيات الثّقافة الإسلامية " تناول فيها، أحدَ أهم الشخصيات التي عرفها تاريخ الفكر الإسلامي، والذي اعتبره المحاضر، إلى جانب شخصية علي بن أبي طالب، وابن عربي، من أكبر الشّخصيات التي طرحت العديد من الإشكاليات؛ نظراً لما خلفه من تصورات ورؤى، كان لها تأثيرُها الكبير في تراثنا العربي الإسلامي، ولا زالت تمارس نفس التأثير حتى يومنا هذا.
يرى الأستاذ الجنابي أن الغاية من اتخاذ الغزالي موضوعاً للدارسة، هو تنظيم رؤيتنا للتراث الإسلامي، بطريقة عقلانية وعقلية، ومحاولة إرجاع أعلام الفكر العربي الإسلامي إلى نصابهم الفعلي، كل هذا بغية دمج تراث الغزالي في الوعي العربي المعاصر، وجعله جزءاً من الوعي الثقافي والفلسفي للإنسان العربي.
ولتحقيق هذا الغاية، لابد أولا من تخليص شخصية الغزالي، من الشّوائب التي لصقت بها، وعملت على التّشويش على حقيقة الرجل، إلى حد تضارب المواقف حوله، بين من اعتبره معذب الأكباد، ومن ارتقى به إلى مصاف الأنبياء، معتبراً أنه لو كان نبي بعد الأنبياء، لكان الغزالي، وموقف آخر هوى به إلى درك الجاهلية والزندقة والكفر، بل والجهل بأبجديات اللغة العربية.
لقد شكلت شخصيةُ الغزالي، في حكم الأستاذ ميثم الجنابي، لغزاً للدارسين، الأمر الذي جعلهم يختلفون، بخصوص تقييمه، حيث كانت تقييماتهم متوافقة، وميولاتهم العقدية، أو السياسية، أو الفكرية. لذلك أكد باحثُنا، على ضرورة الخروج من هذا التيه الذي أوقعتنا فيه تلك الدراسات، بخصوص شخصية الغزالي الفعلية والحقيقية، من خلال الرجوع إلى الغزالي ذاته؛ أي إلى الأفكار التي اعتقدها وقال بها شخصياً.
يعتبر محاضرُنا أن الغوص في تفاصيل الدراسات التي اهتمت بحياة الغزالي، يمكننا من القبض على أهم مفاتيح هذه شخصية، إذ نجد إجماعاً بين الدارسين، حول القول إن حياة الغزالي، اتسمت بالقلق والتقلب وعدم الثبات، بعبارة أخرى، إنها شخصية محيرة، مما يعني صعوبة فهم طبيعتها.
وفي سبيل فهم المسار الفكري الذي قطعه الرجل، بالإضافة إلى تقديم نموذج للباحثين الجدد حول كيفية التعامل مع نصوص التراث، يزف أستاذُنا ميثم الجنابي، بشرى تهم عملاً جديداً سيرى النّور قريبًا، والذي اختار له كعنوان "فلسفة الروح الإصلاحي عند الغزالي"، والذي يحاول فيه رسم معالم فكر الغزالي عبر مختلف الميادين، باعتباره شخصيةً فلسفية وإصلاحية في الآن ذاته.
يسعى الباحث ميثم الجنابي في مؤلفه هذا إلى دحض التصورات السّائدة حول أبي حامد، والتي عملت على اختزال شخصية الرجل في ثلاث جوانب: حجة الإسلام، وحامي السنة، ومهدِّم الفلسفة، وهي الأوصاف التي يرفضها صاحبُنا، بل حتى الغزالي نفسه، لم يكن يرغب فيها، لكونه كان يرفض التقييمات.
يتضح، إذن، أن مشروع الباحث الكبير ميثم الجنابي، يسعى إلى إدراك أبي حامد، انطلاقاً من تجربة الغزالي الذاتية، وتجربة الثقافة الإسلامية ككل. فكما هو معلوم، لقد كان الغزالي؛ شأنه شأن معظم الشخصيات الإشكالية الكبرى، تجسيداً للفكرة الصوفية التي تقول "البلاء للقلب كاللّهب للذهب"، بمعنى أن الابتلاء يعمل على صقل القلب، وجعله أكثر جلاءً لتلقي الحقيقة وبلوغ اليقين. إن الاحداث التي تعرض لها الغزالي في حياته، زادت من صعوبة الغوص في تفاصيل فكر الرجل، بل وأضفت عليه نوعاً من الضبابية والتشويش، الأمر الذي يفرض على كل من يحاول استكناه خبايا الإرث المعرفي للغزالي، البدء بإزالة الشّوائب التي ألصقت به، بغرض الوصول إلى الأقوال الحقيقية للرجل، كل هذا مع ضرورة قراءة هذا التراث وفق معايير العصر الذي ترعرع ونما فيه، وليس وفق معايير العصور السابقة أو اللاحقة، حتى نأخذ تصوراً واضحاً عن الغزالي، يغنينا عن مختلف المواقف التي تباينت واختلفت فيما بينها بخصوص حقيقته.
في الأخير، خلص محاضرُنا إلى أن أبا حامد شخصية متعرجة، كما هي طبيعة الحقيقة، وعليه فلا يحق لنا اختزال فكر الرجل في هذا الجانب أو ذاك، مادام أنه يمثل جميع جوانب المعرفة التي سادت في عصره؛ من فلسفة وفقه وكلام وتصوف. إن كل ضروب المعرفة هذه قد شكلت مرحلة من مراحل رحلة الغزالي في البحث عن الحقيقة، وبعبارة أخرى، إن حياة الغزالي الفكرية عبارة عن لبنات وضعت فوق بعضها البعض، وأي اقصاء لإحداها، سيؤدي حتما إلى تهاوي البناء ككل، وبالتالي تضيع حقيقة الغزالي التي نسعى إلى القبض عليها.