الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه.
وبعد: فهذه كلماتٌ في هذا الموضوع المهم: "الخطاب الوسطي ومتغيرات العصر".
دلالات العنوان
للتواصل مع الناس طرقٌ متعددةٌ، والمقصودُ هنا التواصل عبر الخطاب، وهذا يكون بوسائل، منها الخطابُ الشفوي، ومنها الخطابُ المكتوب ومنها الخطابُ بالفعل، وهذا أبلغُها.
والوسطي: نسبة إلى الوسط، وهو الخيار العدل، وقد كُتِب في تعريف الوسط والوسطية لغةً واصطلاحًا الكثير، وقد يَدلُّ على المراد دلالةً مباشرةً قولُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "خير هذه الأمة النمط الوسط، يلحقُ بهم التالي، ويرجعُ إليهم الغالي" (1)
والمتغيراتُ: هي أحوال الناس، وأنماط العيش، ومستجدات العلوم والفنون، ومخترعات التواصل والتعارف، وعادات البشر وثقافاتهم.
والعصرُ: الزمنُ الذي نحن فيه، ولكل زمنٍ خصائصُه ومميزاته.
المُخاطِب والمُخاطَب:
المُخاطِبُ هم أولو الأمر من الحكام والعلماء، كل في مجاله وتخصصه.
والمخاطَب هم أمةُ الإجابة وأمةُ الدعوة على حد سواء:
الأولى: لتمتين إيمانها، وتجديد إسلامها، ورص صفوفها.
والثانية: لترغيبها في الإسلام، وحثها على اعتناقه، وإزالة الشبهات القائمة في طريقها، وتخفيف حدة العداء والكراهية والتقاطع والتدابر.
الخطابُ الوسطي والتجديد:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَنْ يجدد لها أمر دينها" (2).
وهذا يُشعر بالحاجة إلى التجديد وأهميته، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: "إن الله يقيض للناس على رأس كل مئة سنة من يعلِّم الناس السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب"(3). وهذان وجهان مِن وجوه التجديد، وفي الخطاب الوسطي حاجةٌ ماسةٌ إلى تعليم السُّنن على وجهها، ونفي الكذب اللفظي والمعنوي اللذين قد يُلحقان بحديث الشارع صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمامُ سفيان بن عُيينة: "بلغني أنه يَخرج في كل مئة سنة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من العلماء يقوي الله به الدين..."(4).
والمقصود من الخطاب الوسطي تقويةُ الدين في نفوس أهله، وتقويةُ حججه وإظهار محاسنه وحقائقه في نفوس الآخرين.
وهؤلاء المُجدِّدون متعددون، يقول ابنُ الأثير: "قد تكلَّم العلماءُ في تأويل هذا الحديث، كل واحد في زمانه، وأشاروا إلى القائم الذي يجدِّد للناس على رأس كل مئة سنة، كأنَّ كل قائل قد مال إلى مذهبه وحمل تأويل الحديث عليه، والأولى أنْ يحمل الحديث على العموم، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَن يجدد لها دينها» لا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المئة رجلًا واحدًا، وإنما قد يكون واحدًا، وقد يكون أكثر منه فإن لفظه «مَنْ» تقع على الواحد والجمع.
وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعوث: الفقهاء خاصة، كما ذهب إليه بعضُ العلماء، فإن انتفاع الأمة بالفقهاء، وإن كان نفعًا عامًا في أمور الدين، فان انتفاعهم بغيرهم أيضا كثير، مثل أولي الأمر، وأصحاب الحديث والقراء والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد، فإن كل قوم ينفعون بفن لا ينفع به الآخر، إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء ويتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذه وظيفة أولي الأمر.
وكذلك أصحاب الحديث: ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع.
والقراء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الروايات.
والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا.
فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر، لكن الذي ينبغي أن يكون المبعوث على رأس المئة: رجلًا مشهورًا معروفًا، مشارًا إليه في كل فن من هذه الفنون، فإذا حمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى، وأبعد من التهمة، وأشبه بالحكمة، فإنَّ اختلاف الأئمة رحمة، وتقرير أقوال المجتهدين متعين، فإذا ذهبنا إلى تخصيص القول على أحد المذاهب، وأوّلنا الحديث عليه، بقيت المذاهب الأخرى خارجة عن احتمال الحديث لها، وكان ذلك طعنًا فيها.
فالأحسن والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعة من الأكابر المشهورين على رأس كل مئة سنة يجددون للناس دينهم، ويحفظون مذاهبهم التي قلدوا فيها مجتهديهم وأئمتهم".
ثم ذكر (ابنُ الأثير) أسماء مَنْ يقع عليهم هذا الوصف إلى زمنه من الخلفاء والعلماء، وهو مهم فليرجع إليه (5).
وبه اتضحَ ضرورة تعدُّد الخطاب الوسطي وتعدُّد القائمين به.
وباستعراض حياة مَنْ وُصف بالتجديد يتضح المراد أكثر.
ضرورةُ مسايرة التغيير:
يَعرف أهلُ العلم وطلابه أن مِن علوم القرآن والحديث النبوي علم الناسخ والمنسوخ، وقد أكثرَ العلماء من التأليف فيه في كلا العلمين، وتعددت الآراء والاجتهادات والأفكار فيما هو ناسخ ومنسوخ، والمؤلفون في ذلك بين مُقل ومُكثر، وليس مِن غرضي الدخول في ذلك، إنما أريد أن أستنبط من هذا إشارة إلى أنَّ الشارع راعى أحوال الناس ومتغيرات زمانهم، فكان أن شرعَ ثم نسخ، إلى أن استقرت الأحكام، ونتعلم مِن هذا ضرورة مسايرة التغيير، وليس لنا أن ندعي شيئا لم يُنقل، ولكن قد يعطينا هذا حرية أكبر في الاختيار والترجيح والأخذ بقول دون قول، أو نظرة دون نظرة، أو اجتهاد دون اجتهاد.
ويُذكر هنا كذلك تجدُّد آراء العلماء وتعدد أقوالهم، وهي ظاهرةٌ صحيةٌ منسجمةٌ مع طبيعة الأشياء.
التراثُ كنزٌ جامعٌ:
التراث الإسلامي تراثٌ ضخمٌ تعددتْ مبانيه ومعانيه، وكثرتْ أنواعه ومضامينه ومطاويه، ولا بدَّ للتعامل معه مِنْ علمٍ كاشفٍ عاصمٍ يميز القوي من الأقوى، والخطأ من الصواب، والراجح من المرجوح.
وكان مِنْ مناهج العلماء استيعابُ ما قيل وما نُقل حرصًا على ألا يضيع شيء، وقد يتركون مهمة التمحيص لغيرهم. يقول ابنُ جرير الطبري في مقدمة "تاريخه": "وليعلم الناظرُ في كتابنا هذا أنَّ اعتمادي في كل ما أحضرتُ ذكرَه فيه ممّا شرطتُ أني راسمُه فيه إنّما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرُها فيه، والآثارِ التي أنا مسندُها إلى رواتها فيه، دون ما أُدركَ بحجج العقول واستُنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان مِن أخبار الماضين وما هو كائنٌ مِن أنباء الحادثين غير واصل إلى مَن لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بإخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس، فما يكن في كتابي هذا مِن خبرٍ ذكرناه عن بعض الماضين ممّا يستنكره قارئه أو يَستشنعه سامعُه مِنْ أجل أنه لم يَعرف له وجهًا في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليَعلمْ أنه لم يُؤتَ في ذلك مِنْ قِبلنا وإنما أُتي مِن قِبل بعض ناقليه إلينا، وأَنّا إنّما أدّينا ذلك على نحوِ ما أُدِّي إلينا" (6).
وقال الحافظ العراقي:
وليعلمِ الطالبُ أنَّ السِّيَرَا تَجمَعُ ما صحَّ وما قدْ أُنْكرَا
والقصدُ ذكرُ ما أتى أهلُ السّيَرْ بهِ وإنْ إسنادُهُ لمْ يُعْتَبَر [7]
والمؤلفاتُ في كل علم أو فنٍّ متفاوتةُ القيمة والقدر والاعتبار، ففيها القويُّ والضعيفُ، والمتشدِّدُ والمتساهلُ، والمستقصي والمقتصر، ويقودُنا هذا إلى ضرورة إتيان البيوت من أبوابها، واستعمالِ قواعد العلوم مجتمعةً فيما نأخذ وما ندع، وما نرجّح في ظرفٍ ونختار.
أهميةُ التحقُّق والتعمُّق:
مِنْ شروط الخطاب الوسطي الناضج تحقُّقه مِن سلامة النقول والألفاظ، وتعمُّقه في فهمها، وحرصُه على استيعاب مقتضى الأحوال، وتطلُّبه سلامة المآل، ونصوصُ العلم لا تُؤخذ بنظرٍ متعجلٍ أو نظرةٍ عابرةٍ، ولعل مما يَكشف ما أريد قوله هنا هذا الخبرُ الذي حكاه السيوطي عن نفسه في ترجمة شيخه العلامة الكافيجي، يقول رحمه الله: "لزمتُه أربع عشرة سنة، فما جئته مِن مرة إلا وسمعت منه من التحقيقات والعجائب ما لم أسمعه قبل ذلك، قال لي يومًا: أعرب: "زيدٌ قائمٌ"، فقلتُ: قد صرنا في مقام الصغار، ونُسأل عن هذا!
فقال لي: في "زيد قائم" مئة وثلاثة عشر بحثًا.
فقلت: لا أقومُ من هذا المجلس حتى أستفيدها، فأخرجَ لي "تذكرته" فكتبتُها منها" (8).
فالسيوطي استغربَ قولَ شيخه؛ لأنه نظرَ إلى ظاهر الجملة، ثم لمّا سمع أنَّ في تلك الجملة مئة وثلاثة عشر بحثًا راجع نفسَه وخضعَ، وشأنُ العالم النظرُ العميقُ، والتحقيقُ فيما يَسمع ويَرى ويَقرأ.
إنصافُ المخالف وحقُّ الاختيار:
الخطابُ الوسطي يُنصفُ المخالِف ويَختار ما يراه العلاجَ الأمثلَ والحلَّ الأفضلَ، ويُقدِّر الجهد ويَعذر الطرف الآخر، يقول الشيخ ابنُ تيمية في كلامه على أئمة علم الكلام والنظار: "إنه ما مِن هؤلاء إلا مَن له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يَخفى على مَن عرف أحوالهم وتكلَّم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف ...، ولا ريبَ أنَّ من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه تحقيقًا للدعاء الذي استجابه اللهُ لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (9)" (10).
لا إنكارَ في الاختيار:
سُئل الشيخ ابن تيمية "عمَّن يقلد بعضَ العلماء في مسائل الاجتهاد: فهل يُنكر عليه أم يُهجر؟ وكذلك مَن يعمل بأحد القولين؟
فأجاب: الحمد لله.
مسائل الاجتهاد مَنْ عملَ فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر.
ومَن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه.
وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعضَ العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين" (11).
ويقول الشيخُ أيضًا: "الأمة متفقة على أنه إذا اختلف مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة، لم يجز أن يقال: قول هذا هو الصواب دون هذا إلا بحجة" (12).
وفي هذا يقول الزركشي: "الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه، فأما المختلَف فيه فلا إنكار فيه؛ لأنَّ كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصًا أو إجماعًا قطعيًا أو قياسًا جليًا، وهذا إذا كان الفاعل لا يرى تحريمه فإنْ كان يراه فالأصح الإنكار..." (13).
ويُنظر القرارُ المرقم بـ (152) الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي في منظمة التعاون الإسلامي بشأن "الإسلام والأمة الواحدة والمذاهب العقدية والفقهية والتربوية"، فإنه قرارٌ يمثل الوسطية المرتجاة، وقد وضعَ النقاط على الحروف في مسائل الاجتهاد والاختلاف.
لماذا الخطاب الوسطي؟
يشهدُ العالَمُ تخويفًا كبيرًا من صعود الإسلام، يقول برنارد لويس: "الإسلام قوة جبارة جدًا، وإذا كان الإسلام لم يلعب دوره في المجال الدولي فما ذلك إلا لفقدان القيادة التي تستطيع ذلك، ولكن ظهور هذه القيادة محتمل جدًا. إنَّ وصول الإسلام إلى مركز القوة أمر له خطورته، فهل سيتسامح الإسلام مع غير المسلمين؟ وهل سيتسامح مع اليهود في إسرائيل؟ أو النصارى في لبنان؟ أو مع أوروبا ذات الخلفية الصليبية؟" (14).
ويقول هنتنجتون: "الخطر ليس في المتطرفين الإسلاميين فحسب، وإنما في الديانة الإسلامية نفسها" (15).
ويقول إدوارد سعيد: "لقد غدا الإسلام اليوم بالنسبة إلى الجمهور العام في أمريكا وأوروبا أخبارًا بغيضة بشكل خاص، وتنضوي وسائل الإعلام والحكومة والاستراتيجيون الجغرافيون والخبراء الأكاديميون المختصون بالإسلام - وإن يكن هؤلاء هامشيين بالنسبة لمجمل الثقافة - في جوقة واحدة متناسقة: الإسلام تهديد للحضارة الغربية" (16).
ويقول الأستاذ عباس الجراري: "أصبح المسلمون - بدينهم وتاريخهم وثقافتهم وحضارتهم ومشاكلهم - في قفص الاتهام بالتطرف والإرهاب، ملصقة بهم جريمة ما وقع في 11 سبتمبر، وما سبقها وأعقبها من أحداث، جعلتهم بضعفهم الحالي يخيفون الأقوياء، ويتعرضون من أجل ذلك لأبشع ألوان العدوان" (17).
والخطاب الوسطي هو الكفيل بتبديد هذه المخاوف ودحضها، أو تقليلها وإذابة أثرها، بما يمتلكه من بصر وبصيرة، تنطلق من ذات واثقة، ورؤية نافذة، ومعرفة واسعة بالمقاصد الشرعية، ورغبة صادقة في التبليغ الحق والإبلاغ المستقيم.
وقد تواردتْ على ذلك كلماتُ الباحثين المُتابعين لهذا الشأن:
يقول الأستاذ حسن عزوزي: "إن واجب الحوار يفرض على الطرف الإسلامي أن يقوم بتبديد وهم حتمية الصراع بين الحضارة الإسلامية التي لا تحمل بتاتًا أية عوامل أو بذور للصراع أو المواجهة مع الآخر" (18). ويقول: "إننا ونحن نعيش في زمن الفضائيات والتواصل الإعلامي الهائل الذي طوى المسافات وقرَّب الشعوب والدول فيما بينها يتوجب علينا أن نستغل كل المنابر الإعلامية المتاحة لكي نعمل على تحسين صورة الإسلام لدى الغرب والتخفيف من حدة التوتر الذي يبرز بين فينة وأخرى بين الحضارتين الإسلامية والغربية، ولا شك أن تحقيق ذلك يتطلب خبرة وقدرة فائقتين على مخاطبة الآخر، ويستدعي التوفر على إمكانيات وشروط التواصل والتجاوب. وهذه كلها يَسْهلُ توفيرُها والتوفرُ عليها إنْ صحَّت النياتُ وقويت العزائم، وما ذلك بعزيز على أولي الهمم مِن علمائنا ومفكرينا الغيورين على دينهم، كي يبقى له موقع بين الأديان والحضارات، يتواصل معها ويتحاور، في سبيل تحقيق تعارف حضاري بنّاء وفاعل يبدد كلَّ أوهام الصدام أو الصراع، ويبشِّر بالمقابل بتباشير الوئام والتعاون والتواصل" (19).
ويؤكد هذا الأستاذ عبد العزيز التويجري إذ يقول: "إن العلاقة بين الغرب عمومًا وبين العالم الإسلامي تتطلب مزيدًا من الجهود المخلصة لتعزيزها وتعميقها، لأن التعاون والتعايش والتفاهم والحوار شروط لازمة لإقامة علاقات متوازنة وصلات متكاملة تكفلُ ضمان المصالح المشتركة، مِن أجل بناءِ نظامٍ دوليٍّ إنسانيِّ الروح، تسودُ فيه قيم الحق والعدل والإنصاف ومبادئ الأمن والسلام" (20).
إن العالم اليوم أصبح قرية صغيرة، وليس من الممكن الرجوع إلى الوراء، واعتزال كل دولة داخل حدودها، وإن حركة الانفتاح والهجرات والسفر والارتباط التجاري والتبادل العلمي والانفتاح الثقافي أزالت كثيرًا من الحواجز، ولا بد من الاعتراف بهذا الواقع والإفادة منه في الوقت نفسه لتوصيل رسالة التوحيد إلى الناس (21).
أمثلة للخطاب الوسطي:
من المسائل التي ينبغي الاهتمامُ بحُسن عرضها وبيان حقيقتها ما يتعلق بأهل الذمة تاريخًا وواقعًا وفقهًا وأصولًا.
ومن ذلك:
* مثال أول:
المقصود بالصَّغار الوارد في قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة: 29].
أورد الإمامُ النووي في هذا ما يلي: "تؤخذ الجزية على سبيل الصَّغار والإهانة، بأن يكون الذمي قائمًا، والمسلم الذي يأخذها جالسًا، ويأمره بأن يُخرج يده من جيبه، ويحني ظهره ويطأطئ رأسه، ويصبَّ ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمته: وهي مجتمعُ اللحم بين الماضغ والأذن من اللحي، وهذا معنى الصَّغار عند بعضهم، وهل هذه الهيئة واجبةٌ أم مستحبةٌ؟ وجهان، أصحهما: مستحبة ...".
وهنا قال النووي معقبًا منتقدًا: "قلتُ: هذه الهيئة المذكورة أولًا، لا نعلمُ لها على هذا الوجه أصلًا معتمَدًا، وإنما ذكرها طائفةٌ من أصحابنا الخراسانيين.
وقال جمهورُ الأصحاب: تُؤخذ الجزية برفقٍ، كأخذ الديون.
فالصوابُ الجزمُ بأنَّ هذه الهيئة باطلة مردودة على مَن اخترعها، ولم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعلَ شيئًا منها مع أخذهم الجزية، وقد قال الرافعي رحمه الله في أول كتاب الجزية: الأصحُّ عند الأصحاب: تفسير الصغار بالتزام أحكام الإسلام وجريانها عليهم، وقالوا: أشدُّ الصَّغار على المرء أن يُحكم عليه بما لا يَعتقده ويُضطر إلى احتماله" (22).
إنَّ تعقيب النووي هو ما نحتاج إليه الآن، وهو ما ينبغي الأخذُ به وإظهاره حين الكلام في تفسير هذه الآية الكريمة، وما عبَّرَ عنه بالأصح عند الأصحاب هو ما قاله الإمام الشافعي نفسُه: "سمعتُ رجالًا من أهل العلم يقولون: الصَّغار أنْ يجري عليهم حكم الإسلام. وما أشبهَ ما قالوا بما قالوا؛ لامتناعهم من الإسلام، فإذا جرى عليهم حكمُه فقد أصغروا بما يَجري عليهم منه" (23).
وقد قال أبو يوسف مخاطبًا هارون الرشيد: "وقد ينبغي يا أمير المؤمنين -أيَّدك الله- أن تتقدَّم(24) في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم، والتقدم لهم حتى لا يُظلموا ولا يُؤذوا ولا يُكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحقٍّ يجب عليهم؛ فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَنْ ظلم معاهدًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجُه"(25). وما ذُكر هنا وفي مصادر أخرى من الضرب والإهانة هو عين الأذى.
وللقرافي كلام دقيق يمكن أن نستشهد به في هذا السياق، فقد قال في الفَرْق بَيْنَ قاعِدةِ بِرِّ أَهلِ الذِّمَّةِ وبَيْنَ قاعِدةِ التَّودُّدِ لَهُمْ: "ويَنْبغي لنا أَنْ نَستَحْضِرَ في قلوبِنا ما جُبِلُوا عليهِ مِنْ بُغْضِنا، وتَكْذِيبِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْنا لَاسْتَأْصَلُوا شَأْفَتَنَا واسْتَوْلَوْا عَلَى دِمَائِنَا وأَمْوالِنَا، وأَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْعُصاةِ لِرَبِّنا ومَالِكِنا عَزَّ وجلَّ، ثُمَّ نُعامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّنَا عَزَّ وجلَّ وأَمْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لا مَحَبَّةً فيهمْ ولا تَعْظِيمًا لَهُمْ".
وهنا قال: "ولَا نُظْهِرُ آثَارَ تلْكَ الْأُمُورِ التي نَسْتَحْضِرُها في قُلُوبِنَا مِنْ صِفَاتِهِمْ الذَّمِيمَةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْعَهْدِ يَمْنَعُنا مِنْ ذلك، فنسْتَحْضِرُها حتى يَمْنَعَنا مِنْ الْوُدِّ الباطنِ لَهُمْ والْمُحَرَّمِ عَلَيْنَا خاصةً"(26)، فإذا كان إظهار هذه المشاعر ممنوعًا فكيف بالضرب والإهانة؟!
ومن المستغرب أنَّ القرافي نسبَ إلى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ: "أَهِينُوهُمْ ولَا تَظْلِمُوهُمْ"، وإن بدأه بقوله: يُروى.
وقد بحثتُ عن هذه الرواية فلم أجدها، ويعارضُها ما ثبتَ عن عمر أنه حين طُعِن قال:
"أوصي الخليفة من بعدي خيرًا.
وأوصيه بالمهاجرين خيرًا أن يعرف حقوقهم وأن ينزلهم على منازلهم.
وأوصيه بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبل خيرًا أنْ يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا فإنهم ردء الإسلام، وغيظ العدو، وبيت المال، ولا يرفع فضل صدقاتهم إلا بطيب أنفسهم.
وأوصيه بأعراب البادية فإنهم أصلُ العرب ومادةُ الإسلام أنْ تؤخذ صدقاتهم من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم.
وأوصيه بأهل الذمة خيرًا ألا يكلفهم إلا طاقتهم، وأنْ يقاتل مِنْ ورائهم، وأنْ يفي لهم بعهدهم"(27).
فرجلٌ يُوصي بهم وهو على فراش الموت بعدَ المهاجرين والأنصارِ وأهلِ الأمصارِ والباديةِ قد يبعدُ أن يكون قد قال: أهينوهم.
والإهانة تُنفِّرهم من الإسلام، وتزيدُ عداوة المُعادين منهم، ولا تنفعُ المسلمين شيئًا.
*مثال ثانٍ:
مسألة بدء غير المسلمين بالسلام، وهي مسألة تكلم العلماءُ عليها كثيرًا، حتى أفردها بعضُهم بالبحث والتأليف، وما زالت تأخذ حيزًا كبيرًا من النقاش والجدل، ولعل قول الشيخ ابن تيمية الذاهب إلى منع بدء المحاربين بالسلام دون غيرهم يكون وسطًا بين هذه الأقوال:
قال الشيخُ ابنُ القيم: "قال وكيع عن سفيان عن عمار الدهني عن رجل عن كريب عن ابن عباس أنه كتبَ إلى رجل من أهل الكتاب: سلام عليك.
قلت (القائل ابن القيم): إنْ ثبت هذا عن ابن عباس -وهو راوي حديث أبي سفيان أنَّ النبي كتب إلى قيصر: سلامٌ على من اتبع الهدى- فلعله ظنَّ أنَّ ذلك مكاتبة أهلِ الحرب ومَنْ ليس له ذمة.
وأمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبدؤوهم بالسلام"، وهذا لمّا ذهبَ إليهم ليحاربهم، وهم يهود قريظة فأمرَ ألا يُبدؤوا بالسلام؛ لأنه أمانٌ، وهو قد ذهبَ لحربهم، سمعتُ شيخنا يقول ذلك. ولكن في الحديث الصحيح: لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام"(28).
وابنُ القيم يستدرك على شيخه بذكر الحديث، ولكن هذا مما لا يخفى على الشيخ، وهناك آثار عن السلف تشهدُ لهذا الرأي، وقد تمسُّ الحاجة إليه اليوم.
على أن في الأمر سعةً عند الضرورة، يقول الشيخ ابن القيم في هديه صلى الله عليه وسلم في السلام على أهل الكتاب:
"صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تبدؤوهم بالسلام وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطريق"، لكن قد قيل: إن هذا كان في قضية خاصة لما ساروا إلى بني قريظة قال: "لا تبدؤوهم بالسلام"، فهل هذا حكمٌ عامٌّ لأهل الذمة مطلقًا أو يختص بمَنْ كانت حاله بمثل حال أولئك؟
هذا موضع نظر.
ولكن قد روى مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه". والظاهر أن هذا حكم عام.
وقد اختلف السلف والخلف في ذلك فقال أكثرهم: لا يُبدؤون بالسلام.
وذهبَ آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يردُّ عليهم، رُوي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز، وهو وجهٌ في مذهب الشافعي رحمه الله، لكنَّ صاحب هذا الوجه قال: يقال له: السلام عليك فقط، بدون ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد.
وقالت طائفة: يجوز الابتداءُ لمصلحةٍ راجحةٍ مِنْ حاجة تكون له إليه، أو خوفٍ من أذاه، أو لقرابةٍ بينهما، أو لسببٍ يقتضي ذلك(29)، يُروى ذلك عن إبراهيم النخعي وعلقمة.
وقال الأوزاعي: إنْ سلمتَ فقد سلَّم الصالحون، وإنْ تركتَ فقد ترَك الصالحون"(30).
وما نقل عن بعض السلف مِنْ جوابٍ عمن سأله: أصافحُ اليهود والنصارى؟ فقال: برجلك نعم"(31) فهو محمولٌ على رأي شخصي، وينبغي عند ذكره بيانُ ذلك حتى لا يُتخذ وسيلة للتشغيب والرد وإثارة الشبهات(32).
* مثال ثالث:
تقسيم البلاد إلى دار إسلام ودار حرب.
وهذه مسألةٌ كبيرةٌ، وينبني عليها أحكام كثيرة، وقد ظهرت في هذا العصر اجتهاداتٌ ترى أن بالإمكان الانتقال من حُكم الدار إلى الجوار، يقول الشيخ الدكتور أحمد الحداد في بحثه "من الدار إلى الجار: مفهوم التقسيم وواقعه الحاضر": "فإذا أنشأنا تشريعًا يسمّى حقوق المجاورة الدولية فإننا بذلك نكون قد أرسينا مبدأ التعايش السلمي بين الشعوب، فإن تشريعًا كهذا هو أجدر بالأخذ، وألصق بالواقع، وأنسب في التشريع، والأصلح للأمة في الحال والمآل، فإنْ لم يُقبل ذلك - وهو ما لا ينبغي- فإنه لا محيصَ من أنْ نقول: إن العالم اليوم يعتبر كله دار عهد، فإن الدول الإسلامية وغيرها تنتظم اليوم بنظام معاهدة دولية عامة دخلتها الدول الإسلامية وغيرها دخولًا اختياريًا، وكلها إلا ما تسمّى بالدول الكبرى تحتمي بتلك المعاهدة التي تنص على التعايش السلمي والتعاون الأممي وحماية الدول والشعوب من العدوان الخارجي، وتحترم خصوصيات الدول والشعوب والديانات، وتكفل حقوق كل فرد"(33).
ويقول الدكتور سعيد حارب: "إن فكرة تقسيم العالم إلى دارين أو ثلاث يصعبُ اعتمادها طريقة واحدة للتعامل مع العالم، بل حتى مع واقعِ المسلمين"(34).
وقد استُغِلَّ الحكمُ على بعض البلاد بأنها دارُ حرب استغلالًا سيئًا، "أضرَّ بموقف المسلمين، وبسلوكيات بعض المقيمين في ديار المهجر الذين توهموا أنَّ الدار التي يعيشون فيها هي دار حرب يحل لهم أخذُ أموال أهلها على أنها غنائم مباحة. وهذا محضُ تغليط؛ لأنَّ تسمية دار الحرب إنما هي في الواقع نتيجةٌ من نتائج الحرب وأثرٌ من آثارها، وهؤلاء المسلمون المهاجرون لم يدخلوا البلاد في أعقاب حرب شنوها وانهزم فيها أهلُها، وإنما دخلوها بعهود ومواثيق واثقوا عليها أهل البلاد المستقبلة، والتزموا باحترام نظامها وبالحفاظِ على أمنِها..." كما قال الدكتور مصطفى بن حمزة(35).
إنَّ الأخذ بهذه الأنظار الجديدة فيه من المصلحة للدعوة الإسلامية ما لا يخفى على أحد، وإذا أمن الناسُ بعضهم بعضًا توجهوا إلى إعمال الفكر في قضايا كثيرةٍ تهمهم، ولنا في تسمية صلح الحديبية بالفتح المبين أجلى دليلٍ على ذلك.
وهذه المسألة معروضةٌ للنظر، وهي جديرة بنظرٍ جماعيٍّ متأنٍ.
* مثال رابع:
حصل في بعض العهود في الأندلس إكراهُ اليهود والنصارى على الإسلام أو الجلاء عن ديارهم، وممنْ أُكره موسى بن ميمون الإسرائيلي الأندلسي فأظهر الإسلامَ ثم رحل إلى مصر وعاد إلى دينه الأول، وهناك "اشتمل عليه القاضي الفاضل عبدُ الرحيم بن علي البيساني ونظرَ إليه وقرَّر له رزقًا".
قال القفطي: "وابتُلي (موسى هذا) في آخر زمانه برجلٍ من الأندلس فقيهٍ يُعرف بأبي العرب بن معيشة، وصلَ إلى مصر واجتمعَ به، وحاققه على إسلامه، وشنَّعَ عليه، ورامَ أذاه، فمنعه عنه عبدُ الرحيم بن علي الفاضل وقال له: رجل مكرَه، لا يصحُّ إسلامه شرعًا"(36).
وهذا موقفٌ وسطي يمثِّل حقيقة مبدأ الإسلام: (لا إكراه في الدين).
خلاصة جامعة:
الخطابُ الوسطي هو تذكيرٌ بحقائق الدين، وتذكيرٌ بمناهج العلماء في البحث والحوار والجدل والنظر التي تلخصها عبارة: مذهبي صواب ويحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ ويحتمل الصواب(37).
وهو تنويرٌ ولكن لا بالمعنى المصطلحي الغربي الوافد، إذ ذاك مصطلحٌ يتحررُ من الثوابت، ولفظُنا مصطلحٌ يعالج حاجة الحاضر بقبسٍ من نور الثوابت الدينية، عن طريق الاختيار الأمثل من الاجتهاد المعتَبر، الخبير بمستجدات الحياة ومتطلبات العيش وقضايا الناس، والعارف بمستلزمات الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة(38).
توصيات:
-إحصاء الموضوعات التي شذَّ بها أصحابُها عن الموقف الوسطي، ودراستها دراسة فقهية مستنيرة تستوعبُ الأقوالَ كافة ولا تهمل رأيًا من الآراء، فـ"الفِقْه حدٌّ حاجِزٌ بين الهدايةِ والضَّلالِ وقِسْطاسٌ مُسْتقِيمٌ لمَعْرِفةِ مقاديرِ الأَعمالِ"(39)، وإنَّ مِن خير ما يقضي على الاختلاف إحياء فقه الخلاف(40).
وقد عُقدت ندواتٌ مهمةٌ لبيان الموقف الصحيح من قضايا تشغل الرأي العام(41)، ومن الممكن متابعة هذه الجهود.
-إدخال موضوعات تخص مبدأ تقبُّل الرأي المخالِف في مناهج التدريس في مراحلها الأولى، لينشأ الطالبُ على احترام هذا المبدأ(42).
-الاهتمامُ بنشر القرار المهم المرقم بـ (152) بشأن "الإسلام والأمة الواحدة والمذاهب العقدية والفقهية والتربوية"، الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي في منظمة التعاون الإسلامي، وتفعيل بنوده، وإقامة ملتقيات حوله.
-العودة إلى الثروة العظيمة المتمثلة بالتراث الفقهي، ففيه سعةٌ في النظر، تمدُّنا بكثير من رحابة الصدر، واختيارِ الموقف الوسط الذي يتأكدُ الحرصُ عليه في عصرنا هذا، ولا سيما كتب الفتاوى والنوازل، وقد تميزتْ بمعالجاتٍ واقعية في ضوء النصوص الشرعية، وسأرفقُ هنا بابًا خاصًا بأهل الذمة والأحكامِ التي تعودُ إليهم، تبيِّن ما قلتُه، وتدللُ عليه، وهو من كتاب "الفتاوى الهندية"(43) التي قام على تأليفها مجموعةٌ من علماء الهند بأمر الملك محمد أورنك زيب عالمكير، وهو هذا، فلنتأملْ فيما فيه:
(الباب الرابع عشر في أهل الذمة والأحكام التي تعود إليهم)
لا بأس بدخول أهل الذمة المسجد الحرام، وسائر المساجد، وهو الصحيح كذا في "محيط" السرخسي.
في "اليتيمة": يكره للمسلم الدخول في البيعة والكنيسة، وإنما يكره من حيث إنه مجمع الشياطين لا من حيث إنه ليس له حق الدخول كذا في "التتارخانية".
قوم من أهل الذمة اشتروا من المسلمين دارًا في المصر ليتخذوها مقبرة قال: لما ملكوها يفعلون فيها ما شاءوا وإن أضر ببيوت الجيران، بخلاف ما لو اتخذوا بيعة أو كنيسة أو بيت نار في المصر لم يملكوا ذلك. كذا في "خزانة الفتاوى".
لا بأس ببيع الزنار من النصراني والقلنسوة من المجوسي. كذا في "السراجية".
سئل أبو بكر هل يؤخذ عهد من أهل الذمة بالكستيجات؟ قال مرة" لا يؤخذون به. ومرة قال: إنهم يؤخذون به إذا كانوا كثيرًا ليُعرفوا. كذا في "الحاوي للفتاوي".
يكره للمشهور المقتدى به الاختلاط إلى رجل من أهل الباطل والشر إلا بقدر الضرورة لأنه يعظم أمره بين أيدي الناس ولو كان رجلًا لا يعرف يداريه ليدفع الظلم عن نفسه من غير إثم فلا بأس به. كذا في "الملتقط".
وقال القدوري في النصرانية تحت مسلم: لا تنصب في بيته صليبًا وتصلي في بيته حيث شاءت. كذا في "المحيط".
وفي كتاب "الخراج" لأبي يوسف - رحمه الله تعالى -: وللرجل أن يأمر جاريته الكتابية بالغسل من الجنابة ويجبرها على ذلك قالوا: يجب أن تكون المرأة الكتابية على هذا القياس. كذا في "التتارخانية" ناقلًا عن "اليتيمة".
وعن محمد - رحمه الله تعالى - ولا أدع مشركًا يضرب البربط. قال محمد - رحمه الله تعالى -: كل شيء أمنع منه المسلم فإني أمنع منه المشرك إلا الخمر والخنزير. كذا في "الملتقط".
قال محمد - رحمه الله تعالى -: ويكره الأكل والشرب في أواني المشركين قبل الغسل ومع هذا لو أكل أو شرب فيها قبل الغسل جاز ولا يكون آكلًا ولا شاربًا حرامًا، وهذا إذا لم يعلم بنجاسة الأواني فأما إذا علم فإنه لا يجوز أن يشرب ويأكل منها قبل الغسل، ولو شرب أو أكل كان شاربًا وآكلًا حرامًا، وهو نظير سؤر الدجاجة إذا علم أنه كان على منقارها نجاسة فإنه لا يجوز التوضؤ به، والصلاة في سراويلهم نظير الأكل والشرب من أوانيهم إن علم أن سراويلهم نجسة لا تجوز الصلاة فيها وإن لم يعلم تكره الصلاة فيها ولو صلى يجوز، ولا بأس بطعام اليهود والنصارى كله من الذبائح وغيرها، ويستوي الجواب بين أن يكون اليهود والنصارى من أهل الحرب أو من غير أهل الحرب، وكذا يستوي أن يكون اليهود والنصارى من بني إسرائيل أو من غيرهم كنصارى العرب، ولا بأس بطعام المجوس كله إلا الذبيحة، فإن ذبيحتهم حرام ولم يذكر محمد - رحمه الله تعالى - الأكل مع المجوسي ومع غيره من أهل الشرك أنه هل يحل أم لا، وحكي عن الحاكم الإمام عبدالرحمن الكاتب أنه إن ابتلي به المسلم مرة أو مرتين فلا بأس به، وأما الدوام عليه فيكره. كذا في "المحيط".
وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي أن المجوسي إذا كان لا يزمزم فلا بأس بالأكل معه وإن كان يزمزم فلا يأكل معه لأنه يظهر الكفر والشرك ولا يأكل معه حال ما يظهر الكفر والشرك ولا بأس بضيافة الذمي وإن لم يكن بينهما إلا معرفة. كذا في "الملتقط".
وفي "التفاريق": لا بأس بأن يضيف كافرًا لقرابة أو لحاجة. كذا في "التمرتاشي".
ولا بأس بالذهاب إلى ضيافة أهل الذمة هكذا ذكر محمد - رحمه الله تعالى - وفي أضحية "النوازل": المجوسي أو النصراني إذا دعا رجلًا إلى طعامه تكره الإجابة، وإن قال: اشتريت اللحم من السوق فإن كان الداعي نصرانيًّا فلا بأس به. وما ذُكر في "النوازل" في حق النصراني يخالف رواية محمد - رحمه الله تعالى - على ما تقدم ذكرها. كذا في "الذخيرة".
ولا بأس بأن يصل الرجل المسلم المشرك(44) قريبًا كان أو بعيدًا محاربًا كان أو ذميًّا. وأراد بالمحارب المستأمن، وأما إذا كان غير المستأمن فلا ينبغي للمسلم أن يصله بشيء. كذا في "المحيط".
وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي أنه إذا كان حربيًّا في دار الحرب وكان الحال حال صلح ومسالمة فلا بأس بأن يصله. كذا في "التتارخانية".
هذا هو الكلام في صلة المسلم المشرك.
وجئنا إلى صلة المشرك بالمسلم فقد روى محمد - رحمه الله تعالى - في "السير الكبير" أخبارًا متعارضة في بعضها أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل هدايا المشرك، وفي بعضها أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل، فلا بد من التوفيق، واختلفتْ عبارةُ المشايخ رحمهم الله تعالى في وجه التوفيق: فعبارة الفقيه أبي جعفر الهندواني أن ما روي أنه لم يقبلها محمول على أنه إنما لم يقبلها من شخص غلب على ظن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه وقع عند ذلك الشخص أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما يقاتلهم طمعًا في المال لا لإعلاء كلمة الله، ولا يجوز قبول الهدية من مثل هذا الشخص في زماننا. وما رُوي أنه قبلها محمول على أنه قبل من شخص غلب على ظن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه وقع عند ذلك الشخص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يقاتلهم لإعزاز الدين ولإعلاء كلمة الله العليا لا لطلب المال، وقبول الهدية من مثل هذا الشخص جائز في زماننا أيضًا.
ومن المشايخ من وفق من وجه آخر فقال: لم يقبل من شخص علم أنه لو قبل منه يقل صلابته وعزته(45) في حقه ويلين له بسبب قبول الهدية، وقبل من شخص علم أنه لا يقل صلابته وعزته في حقه ولا يلين بسبب قبول الهدية. كذا في "المحيط".
لا بأس بأن يكون بين المسلم والذمي معاملة إذا كان مما لا بد منه. كذا في "السراجية".
إذا كان لرجل أو لامرأة والدان كافران عليه نفقتهما وبرهما وخدمتهما وزيارتهما فإن خاف أن يجلباه إلى الكفر إن زارهما جاز أن لا يزورهما. كذا في "الخلاصة".
ولا يدعو للذمي بالمغفرة ولو دعا له بالهدى جاز لأنه - عليه السلام - قال «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». كذا في "التبيين".
لو قال ليهودي أو مجوسي: يا كافر يأثم إن شق عليه. كذا في "القنية".
إذا قال للذمي: أطال الله بقاءك إن كان نيته أن الله تعالى يطيل بقاءه ليسلم أو يؤدي الجزية عن ذل وصغار فلا بأس به وإن لو ينو شيئا يكره. كذا في "المحيط".
ولو دعا للذمي بطول العمر قيل: لا يجوز لأن فيه التمادي على الكفر. وقيل: يجوز لأن في طول عمره نفعًا للمسلمين بأداء الجزية فيكون دعاء لهم. وعلى هذا الاختلاف الدعاء له بالعافية. كذا في "التبيين".
وقال مجاهد: إذا كتبت إلى اليهودي أو النصراني في الحاجة فاكتب: السلام على من اتبع الهدى.
ويلقى الكافر والمبتدع بوجه مكفهر.
تكره المصافحة مع الذمي، وإن صافحه يغسل يده إن كان متوضئا. كذا في "الغرائب".
ولا بأس بمصافحة المسلم جاره النصراني إذا رجع بعد الغيبة ويتأذى بترك المصافحة. كذا في "القنية".
ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني، وفي المجوسي اختلاف. كذا في "التهذيب".
ويجوز عيادة الذمي. كذا في "التبيين".
واختلفوا في عيادة الفاسق، والأصح أنه لا بأس بها.
وإذا مات الكافر قال لوالده أو قريبه في تعزيته: أخلف الله عليك خيرًا منه، وأصلحك. أي أصلحك بالإسلام ورزقك ولدًا مسلمًا؛ لأن الخيرية به تظهر. كذا في "التبيين".
وذكر ابنُ سماعة عن محمد - رحمه الله تعالى - أنه يصلي على الذمي بشهادة الواحد أنه مسلم ولا يترك الصلاة على المسلم بشهادة الواحد أنه ارتد. كذا في "محيط" السرخسي.
رجلٌ اشترى عبدًا مجوسيًّا فأبى أنْ يسلم وقال: إنْ بعتني من مسلم قتلتُ نفسي جاز له أن يبيعه من مجوسي. كذا في "السراجية".
لا يُترك مملوك مسلم في ملك ذمي، بل يجبر على بيعه إن كان محل البيع. كذا في "الغرائب".
وفي مجموع النوازل إذا دخل يهودي الحمام هل يباح للخادم المسلم أن يخدمه قال إن خدمه طمعا في فلوسه فلا بأس به، وإن خدمه تعظيمًا له يُنظر إن فعل ذلك ليميل قلبه إلى الإسلام فلا بأس به وإن فعل تعظيمًا لليهودي دون أن ينوي شيئًا مما ذكرنا كُره له ذلك.
وعلى هذا إذا دخل ذمي على مسلم فقام له إنْ قام طمعًا في إسلامه فلا بأس، وإنْ قام تعظيمًا له من غير أن ينوي شيئًا مما ذكرنا أو قام طمعًا لغناه كره له ذلك. كذا في "الذخيرة".
ولا ينبغي للرجل أن يسأل اليهودي والنصراني عن التوراة والإنجيل والزبور ولا يكتبه ولا يتعلمه ولا يستدل لإثبات المطالب بما ذكر في تلك الكتب، وأما استدلال العلماء في إثبات رسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالمذكور في أسفار التوراة وصحف الإنجيل فذلك للإلزام عليهم بما عندهم. كذا في "الوجيز" للكردري. والله أعلم".
(1) أخرجه ابنُ أبي شيبة في "المصنف"، (13/ 282)، وأبو عُبيد في "غريب الحديث"، (3/ 482).
والنمط: الطريقة أو الصنف والنوع. وهو أيضًا: الجماعة من الناس أمرهم واحد. فقد كره علي رضي الله عنه الغلو والتقصير في الدين. يُنظر: وسطية الإسلام، ص. 39.
(2) أخرجه أبو داود في "سننه" والحسن بن سفيان في "مسنده" والبزار والطبراني في "المعجم الأوسط" وابن عدي في مقدمة "الكامل" والحاكم في "المستدرك" وصححه وأبو نعيم في "حلية الأولياء" والبيهقي في "المدخل"... واتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح. انظر التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مئة للسيوطي، ص 92.
(3) أخرجه البيهقي في "المدخل". التنبئة، ص. 93.
(4) الناسخ والمنسوخ للنحاس، ص. 522.
(5) جامع الأصول، (11/ 320-323)، ونقله الونشريسي في "المعيار المعرب"، (10/ 7-10).
(6) تاريخ الأمم والرسل والملوك، (1/ 13).
(7) نظم الدرر السنية في السير الزكية، ص. 29.
(8) بغية الوعاة، (1/ 84).
(9) من سورة البقرة، الآية 226.
(10) درء تعارض النقل والعقل، (2/ 102-103).
(11) مجموع الفتاوى، (20/ 207).
(12) مجموع الفتاوى، (20/ 585).
(13) المنثور في القواعد، (2/ 140).
(14) الغرب وسياسة التخويف من الإسلام، ص. 14-15.
(15) السابق، ص. 34.
(16) تغطية الإسلام، ص. 159.
(17) الإسلام واللائكية: معرفة الإسلام، ص. 9.
(18) الغرب وسياسة التخويف من الإسلام، ص. 66.
(19) الغرب وسياسة التخويف من الإسلام، ص. 69.
(20) مسلمو الغرب والعالم الإسلامي، ص. 8.
(21) وانظر: الرصيد الثقافي المشترك وتحالف الحضارات للدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري.
(22) روضة الطالبين، (7/ 503-504).
(23) أحكام القرآن، (2/ 60).
(24) أي تأمر.
(25) الخراج، ص. 124-125.
(26) انظر الفروق للقرافي، (2/ 432-437).
(27) أخرجه عبد الرزاق في "المُصنّف"، (20058)، وانظر صحيح البخاري، (1382).
(28) أحكام أهل الذمة، (3/ 1326).
(29) مِن هذا ما نُقل عن قيام القاضي إسماعيل بن حماد المالكي لعبدون بن صاعد الوزير وكان نصرانيًا، وقد حملَ بعضُهم هذا على التسامح، ورأيتُ اليوسي حمله على سدِّ الذرائع. انظر كتابَه المحاضرات، ص. 401.
(30) زاد المعاد، (2/ 388).
(31) المنتقى من ترجمة سفيان الثوري لابن الجوزي، للذهبي، المطبوع باسم: "مناقب الإمام الأعظم أبي عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري"، ص. 73.
(32) ذكَّرني هذا الرأيُ القائلُ بمنع ابتداء المحاربين بالسلام دون غيرهم بما قاله الحافظ ُابنُ حجر في "فتح الباري"، (2/ 493): "الدعاء على المشركين بالقحط ينبغي أن يُخص بمن كان محارِبًا دون مَنْ كان مسالمًا".
(33) من الدار إلى الجار، ص.17-18.
(34) انظر بحثه: "التعصب والعنف فكرًا وسلوكًا" المنشور في أعمال مؤتمر: "الوسطية منهج حياة" المنعقد في الكويت في ربيع الآخر 1426هـ - مايو 2005م، ص. 270.
وانظر كلامه على التقسيم إلى دار الإسلام ودار الحرب ومفهومهما والآراء المستجدة في ذلك فهو مهم.
(35) انظر بحثه: ثقافة الإرهاب: قراءة شرعية، ص. 56. منشور ضمن أعمال ندوة "حكم الشرع في دعاوى الإرهاب" التي عقدت في المغرب في جمادى الأولى 1428هـ - مايو 2007م.
(36) إخبار العلماء بأخبار الحكماء، (2/ 427-428).
(37) تُنظر الكتب المؤلفة في أسباب الخلاف قديمًا وحديثًا، وهي جهود مباركة ميمونة.
(38) وانظر: مفهوم التنوير في التصوّر الإسلامي للدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري.
(39) الفتاوى الهندية، (1/ 2).
(40) جاء في كتاب "دعوة للتصالح مع المجتمع" أنَّ من أسباب التصادم بعض الاختلافات الفقهية التي رأى المتعصبون أن مخالفهم فيها مبتدع، وهي قضايا عديدة منها: كيفية أداء صلاة التراويح، وقراءة البسملة في الصلاة، والقنوت في صلاة الفجر، والجهر بالدعاء بعد الصلاة، وأذان يوم الجمعة وغيرها. انظر: ثقافة الإرهاب، ص. 29.
(41) تناولت ندوة "حكم الشرع في دعاوى الإرهاب" التي عقدت في المغرب في جمادى الأولى 1428هـ -مايو 2007م موضوعات مهمة، منها:
-الجاهلية: مفهومها وسماتها وحكم مَنْ يصف المجتمعَ المسلمَ بها.
-الخلافة الراشدة: الوهم والحكم.
-الشورى والديمقراطية.
-الحاكمية وظاهرة الغلو في الدين.
-اللامذهبية في الفقه.
-مفهوم الولاء والبراء في الإسلام.
-فتنة التكفير...
(42) يرى جان بيير شانجو في كتابه "حول الصحيح والجميل والجيد: مقاربة عصبية جديدة" أنَّ كل دماغ يتطور في وسطه الثقافي بقدر كبير من المرونة، هذه المرونة تخف مع مرور الزمن والتقدم في السن. هكذا مثلا يغدو من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- تغيير ثقافة الإنسان البالغ. لذلك ينبغي إعطاء الأهمية القصوى لفترة التكوين بسن الطفولة، بتعبير آخر: للمدرسة الابتدائية. انظر مسارات في جريدة البيان، دبي، العدد (37)، الأحد 25 /1 / 2009م.
(43) (5/ 346-348).
(44) في الأصل: والمشرك. والصواب ما أثبت.
(45) جاء في نسخة "المكتبة الشاملة" هنا: لا يقل صلابتَه وعزتَه. وهذا خطأ.
د.احمد عواد الكبيسي
منذ شهرين
ما شاء الله بارك الله بكم بحث قيّم ومهم ارجو ان ينشر على كل وسائل التواصل الاجتماعي لتبيين معنى الوسطية وأهميتها في الإسلام